وعد بلفور: الدور الذي لعبه جدي في كتابة التاريخ
- جين كوربين
- بي بي سي
قبل 100 سنة بالضبط، أشعلت 67 كلمة كتبت على ورقة واحدة صراعا في أرض فلسطين اصبح من أصعب الصراعات حلا في التاريخ.
فوعد بلفور يعد المرة الأولى التي صدقت فيها الحكومة البريطانية على فكرة تأسيس "وطنا قوميا للشعب اليهودي" في فلسطين. وبينما يعتقد العديد من الاسرائيليين أن وعد بلفور يعتبر الحجر الأساس لدولة اسرائيل ينظر الفلسطينيون الى الوعد المذكور على أنه خيانة لهم.
كنت دائما مهتمة بالصراع العربي الاسرائيلي الذي استمر منذ ذلك الحين، وقد غطيت هذا الصراع لمدة 30 عاما تقريبا.
ولكن هذه المرة، اتخذت رحلة شخصية لاكتشاف الدور الذي لعبه ليوبولد أيمري (أو ليو)، أحد أجدادي، في صياغة وعد لفور.
كانت والدتي، أوليف أيمري، تروي لي قصصا حول ليو عندما كنت طفلة. كان ليو سياسيا بريطانيا لعب دورا في صياغة وعد بلفور. واضاف ليو الى مسودة "الوعد" عبارة الغرض منها حماية حقوق الاغلبية الفلسطينية المدنية والدينية.
كان ليو أيمري احد الذين صاغوا وعد بلفور
زرت في قرية لاستلي في مقاطعة ديفون الانجليزية - حيث كان يقيم اجدادي - الكنيسة التي دفن في باحتها ليو واطلعت على الشاهد الذي يحتوي على كلمات كتبها صديقه رئيس الوزراء ووزير المستعمرات السابق وينستون تشرتشل يمتدح فيها "سياسيا بريطانيا عظيما."
كان لليو أيمري خلفية مثيرة حقا. فقد كانت والدته يهودية، ولكنها اعتنقت المسيحية وربت ابنها على ذلك الدين. درس ليو الحضارة الاسلامية وأصبح عضوا في مجلس العموم البريطاني ثم وزيرا للمستعمرات حيث أشرف على الانتداب البريطاني على فلسطين.
هل كانت رؤية ليو القائلة إنه بامكان اليهود والعرب أن يتعايشوا بسلام مقضيا عليها في المهد وهل كان العنف لا بد منه؟ هذه هي الأسئلة التي كنت أريد الاجابة عليها عندما زرت اسرائيل هذه المرة.
وصل 100 الف يهودي الى فلسطين في السنوات التي تلت صدور وعد بلفور الذي ألقت بريطانيا بموجبه وزنها الى جانب الحركة الصهيونية التي كانت تطالب بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
أدى ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي الى اندلاع انتفاضة فلسطينية ضد الهجرة اليهودية، مما حدا بالسلطات البريطانية الى الحد من الهجرة اليهودية تزامنا مع انطلاق محاولة هتلر للتخلص من اليهود في أوروبا.
أدى تفجير فندق الملك داود في القدس من قبل العصابات اليهودية عام 1946 الى مقتل 91 شخصا
ردت الحركات اليهودية السرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على ذلك القرار البريطاني بمهاجمة القوات البريطانية في فلسطين. وفي واحدة من أشهر الحوادث، فجرت هذه الحركات فندق الملك داود في القدس كما قتلت العديد من العسكريين البريطانيين.
عند زيارتي الأخيرة الى اسرائيل، تتبعت خطى ليو أيمري في القدس، وتبادر الى ذهني عندما قرأت مذكراته التي قال فيها إن "نجاح العنف" من الجانبين الذي صدمه عند اندلاعه في العشرينيات أني شهدت هذا الأمر مرارا خلال 4 حروب في غزة والاحتجاجات الدموية في الضفة الغربية والهجمات الانتحارية التي شهدتها اسرائيل.
كان ليو أيمري قد أصيب باحباط شديد عندما قررت بريطانيا الحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين. زرت أتليت، مكان أحد معسكرات الاعتقال البريطانية، بصحبة الحاخام اليهودي مئير لاو الذي كان يبلغ من العمر 80 عاما. كان الحاخام لاو قضى اسبوعين في معسكر الاعتقال هذا لدى وصوله الى فلسطين عندما كان يبلغ من العمر 8 سنوات بعد نجاته من معسكر بوشنفالد النازي. وقد أعيد العديد من الوافدين اليهود الى أوروبا من حيث أتوا.
الحاخام مئير لاو في أتليت
قال لي الحاخام لاو وهو يهز رأسه بأسى عند تجولنا الى جانب سياج المعسكر واسلاكه الشائكة، "كان (احتجازنا) عملا غير انساني بعد ست سنوات من الرعب. أين كانت المملكة المتحدة آنئذ؟ لم يكن للورد بلفور أن يصدق ذلك."
وبينما تواصل العنف في الأربعينيات، وبينما سعت بريطانيا الى التخلص من المأزق الفلسطيني، كان على ليو أميري أن يتقبل حتمية تقسيم البلاد. ولكنه كان يعكف على حل للمشكلة، حسبما اكتشفت في متحف في القدس.
فقد وجدت في ذلك المتحف خارطة رسمها عام 1946 - تحمل عنوان خطة أيمري - تهدف الى تقسيم فلسطين الى قسمين يهودي وعربي. وكانت الخارطة تشبه الى حد بعيد تلك التي جاءت بها خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947 والتي انتهى بموجبها الانتداب البريطاني وانشاء دولة اسرائيل.
رفضت الدول العربية خطة الأمم المتحدة، مما ادى الى اندلاع حرب أجبر فيها مئات الآلاف من الفلسطينيين على النزوح من ديارهم.
خطة أيمري لتقسيم فلسطين
وكانت واحدة من أشد اللحظات تأثيرا بالنسبة لي زيارة أطلال قرية لفتا الفلسطينية التي هجرها أهلها منذ ما يقرب من 70 سنة بصحبة عدد من سكانها السابقين.
تحول العديد من الفلسطينيين من هذه المنطقة الى لاجئين ولم يسمح لهم بالعودة الى لفتا. ولكنهم يعودون كل عام مع اطفالهم واحفادهم ليتذكروا ما كان الحال عليه قبل نزوحهم عنها.
كان حامد سهيل يبلغ من العمر 7 سنوات عندما اضطر للهرب من لفتا. أما الآن، فيتكئ على عكازة بينما يساعده ابنه ناصر في النزول من المرتفعات المحيطة بالقرية التي غطتها الأحراش.
قال ناصر، "اتمنى أن أرى اليوم الذي يسمح لنا فيه بالعودة الى هنا والعيش بسلام آمنين." أما حفيدة حامد سحر فقالت والتأثر باد عليها، "يغضبني ويحزنني في الوقت ذاته المجيء الى هنا، ولو انه من المهم تذكر تاريخ هذه الدور."
ناصر سهيل وابنته سحر في زيارة الى لفتا
تؤكد ناطحات السحاب الشاهقة والمجمعات التكنولوجية في تل أبيب، عاصمة اسرائيل الاقتصادية، بعد 100 سنة ايمان ليو بأن الهجرة اليهودية من شأنها تغيير الشرق الأوسط.
ولكن مستوى المعيشة في تل أبيب، الذي يضاهي بل ويتجاوز مستوى المعيشة في كثير من الدول الأوروبية، يختلف اختلافا كبيرا عن ذلك الذي يتمتع به معظم الفلسطينيين. فالاقتصاد الفلسطيني يعاني من أزمة كبيرة. ويؤمن كثير من الفلسطينيين أن ذلك يعود الى ظلم بريطانيا لهم عندما اصدرت وعد بلفور.
أقرب ما شهدته لتحقق رؤية ليو أيمري حول مستقبل فلسطين كان في التسعينيات عندما كنت الصحفية الوحيدة التي سمح لها بالولوج خلف الكواليس للوقوف على مفاوضات أوسلو للسلام.
تحدث لي المفاوضون الاسرائيليون والفلسطينيون الذين كانوا يجتمعون سرا في النرويج آنذاك عن عزمهم على تحقيق السلام.
صدر الصورة، Public Domain
نص وعد بلفور
ولكن التفاؤل الذي تحقق عندما صافح زعماء الحكومة الاسرائيلية مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في حديقة البيت الأبيض في واشنطن تحطم عندما قام متطرف يهودي باغتيال رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك اسحق رابين، وعندما فشل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في كبح الهجمات الانتحارية التي شنتها حركة حماس في اسرائيل.
عدت لاستقصي قصص اولئك الذين رويت قصصهم قبل 24 عاما تقريبا.
ما زال يوسي بيلين، الوزير الاسرائيلي الذي لعب دورا كبيرا في التأسيس لمفاوضات أوسلو، متفائلا. قال لي بيلين، "العملية التي أطلقناها في أوسلو لا يمكن التراجع عنها، فقد خلقت شرعية لاسرائيل في العالم العربي، ونأمل في أن يسهم اتفاق أوسلو في التوصل الى حل نهائي، ولكن في وقت قد يطول كثيرا عما كنا نتوقع."
ولكن أحمد قريع، كبير المفاوضين الفلسطينيين، كان أكثر تشاؤما إذ قال، "لسوء الطالع، مرت 25 سنة تقريبا وكانت مضيعة للوقت. فالاسرائيليون ما زالوا يسيطرون على اراضي فلسطين واهلها. المشكلة تتركز في عقلية الاحتلال الاسرائيلية."
انتهت رحلتي في فلسطين في منزل حييم وايزمان، أول رئيس لدولة اسرائيل في بلدة "ريهوفوت"، حيث عثرت على اسم ليو أيمري في دفتر الزائرين إذ كان قد زار المكان في آخر رحلة له الى اسرائيل عندما كان يبلغ من العمر 76 عاما في عام 1950,
جلست عند مكتب وايزمان وقرأت المراسلات بين الصديقين وتوصلت الى ان ليو (أيمري) كان قد استنتج قبل كل هذه السنوات الى أن معضلة القدس ستصبح أكثر المسائل صعوبة في التوصل الى حل نهائي، فكلا الجانبين لم يكونا على استعداد للتنازل عن تصميمهما على جعل المدينة المقدسة عاصمة لدولتيهما.
وهذا الوضع يستمر الى اليوم.
لم يظن ليو (أيمري) أن العنف سيندلع بالضرورة في فلسطين، وكان يعتقد أن ذلك نتج عن قرارات سياسية خاطئة وما يحمله التاريخ من احداث دموية وغير متوقعة - كما اكتشفت بنفسي عقب التوقيع على اتفاقيات أوسلو.
أما الآن، فهناك خطر حقيقي بأن التطرف والتشدد الذي يبديه جانبا الصراع قد يؤديان الى استحالة تحقيق السلام لعقود عديدة.