صناعة السحر و البهجة !
- محمد عبد الحميد
- لندن
وقتها لم يكن كوب قهوة .. كان شايا بحليب ساخن .
و أشعة شمس تسقط متجاوزة النافذة المستديرة علي حائط غرفة الجلوس القديمة لترتطم بالأرض في حنو ، تاركة جزيئات غبرة ، كنت وقتها ، مع سنوات عمري الصغيرة ، اعتقد أنها غبارٌ سحري ..
الصوت .. رخيم .. لكنه حنون .. يخرج صادحا من مذياع قديم قديم لكنه يبهرك بإصراره علي العمل الدؤوب .
إفطار يوم الجمعة ، يوم إجازة المدرسة ، بعد أسبوع طويل كنا نسميه بطفولية إصلاحا "إفطار أغنياء " .. لا شيئا مميزا هنا إلا التمهل في الإعداد و امتلاك كل الوقت .. فاليوم إجازة ..
ذات الأرغفة الساخنة .. صحن الفول المعتاد المعد بعناية فائقة .. أقراص الفلافل المصرية الذهبية اللون ..
و زيتون أسود ..
لصباح أبيض به سعادة غير مبررة يصنعها صوت البهجة المرتطم بأذني .
الراديو في الخلفية يحكي حكاية تتزامن مع فطوري الصغير ، لكن عقلي يتجاوزها بإضافة اللون .. الضوء .. و الحركة ..
صورة لا أنساها أبدا كي لا تـُمحى اللحظة .
بعد سنوات نسبيا ليست بالقليلة ، الصوت يبقى لكن تتغير حدته .. يصبح أكثر جدية .
ينقل أخبارا في الأغلب ليست سارة لكن سماعها أصبح حتميا .
يبدأ ب " هنا لندن " لينقل للمهتم الذي أختار الإعلام مجال دراسة أخبارا مختلفة .
يدقق و يحلل و يتابع و يفسر و يحاول أن يبقى يحظى بالثقة حياديا متزنا .
بعد سنوات أكثر و أكثر ، بعد أن أصبحت ضمن فريق مؤسسة بي بي سي التي كنت مراهقا شابا ثم محترفا أنظر إليها بكل تقدير و احترام ، جاءت تجربتي الأولي كصانع راديو لا يتلقى البث فقط .
كانت ردة فعلي خوفا صرفا .
عند انضمامي لفريق برنامج نقطة حوار الذي تقدمه بي بي سي عربي كبرنامج تفاعلي للاستماع لآرائكم في قضايا مختلفة منذ حوالي أربع سنوات و يزيد ، كان الأمر بالنسبة لي مثيرا ممتعا ..
التواصل مع جمهور بي بي سي بشكل مباشر و الاستماع إلي رأيهم و وجهات نظرهم كان بكل المقاييس متعة كبيرة .
كنت متشوقا .. لكنني متيقنا أن الأمر يبقى سهلا ، متحصنا ربما بدراستي أولا و بخبرة تجاوزت وقتها خمس عشرة سنة قمت فيها بذات المهنة في تقديم الأخبار و البرامج و مررت بتجارب و مواقف أشعلت في رأسي شيبا .
تلفزيونيا .. و تحت تلفزيونيا ألف خط ..
وقت انضمامي للبرنامج عرفت أن جزءا من مهامي تقديم نصف ساعة كاملة بذات المضمون من نقطة حوار علي راديو بي بي سي.
امتداد لنقاشنا التلفزيوني و لكن عبر الأثير فقط .
و هنا جاء الخوف الصرف .
لأول مرة سأكون في مواجهة ميكرفون الإذاعة ..
تجربة جديدة ، بالنسبة لي تحمل تحديا كبيرا ..
قد يظن البعض أن العمل الإذاعي أسهل كثيرا من الإنتاج التلفزيوني لأسباب عدة ، أما أنا وقتها فكان من الصعب إقناعي بذلك تماما ..
كل ارتباطي بالمذياع عبر سنوات عمرى ، الآن أصبح في الميزان ..
الآن أتحول من متلق إلى صانع بهجة ..
حتى و إن كانت أخبارنا لا تحمل منها الكثير ..
أتذكر جيدا أول مرة .. وقت دخولي استديو راديو 34 B .. سماعة الأذن الكبيرة تحيط برأسي .. و التعليمات أتلقاها كتلميذ مرتبك عن ال COUGH KEY إذا أردت فصل الميكروفون عن البث الحي .. أو TALK BACK إذا أردت التواصل مع مدير الاستديو الإذاعي أو منتج البرنامج ..
مرت التجربة الأولي علي ألف خير و بعدها أصبحت مجازا.. مدمنا ..
صرت أعشق و أنتظر جزء الراديو من نقطة حوار للتواصل معكم و معرفة أراءكم ..
الغريب أن كم رسائل التواصل التي أتلقاها عبر قنوات مختلفة كصفحتي علي تويتر أو فيس بوك و التي تُعقب و تُثني و تسأل عن هذا الجزء الصغير الذي يتم بثه علي راديو بي بي سي يُوازي رسائل مماثلة تُعلق علي برامج أخرى تُبث عبر شاشة التلفزيون .
و هنا سؤال كبير لا يقتصر علي حالتي أو علي نقطة حوار فقط و لكن علي هذه الوسيلة السحرية و هذا الصندوق الجذاب الذي تغير حجمه كثيرا منذ اختراعه حتي أصبح متاحا للجميع في أي وقت و مكان .
هل يبقى للإذاعة مستقبلا بعد سطوة و هيمنة وسائل اتصال أخري علي رأسها وسائل التواصل الاجتماعي ؟
في خمسينيات القرن العشرين عندما بدأ التلفزيون في انتشاره الحثيث و شعبيته الطاغية ظن الجميع أن عصر الراديو قد انتهي .
لكن الساحر الصغير كان أقوي من أن يُهزم من شاشة فضية .
أعاد الراديو بعث نفسه و توظيف برامجه و تغير طريقة مخاطبته فأصبح جزءا لا يتجزأ من حياة ملايين الأشخاص حول العالم ..
ارتبطوا به و صار جزءا من تكوينهم حتي بالنسبة للأجيال الأحدث .
ثم بدأ الراديو يمر بذات الاختبار بشكل أكثر تعقيدا ..
طفرة كبيرة في ما يسمي وسائل التواصل الاجتماعي ظن كثيرون أنها قد تسحب البساط من الراديو و من التلفزيون حتي ، و أنها وحدها مستقبل الإعلام الحقيقي ..
لكن الراديو و صناعه لا يأبوا إلا مقاومة ..
تطويع هذه الوسائل الحديثة أصبح حتميا ..
تغيير المضمون بعض الشيء .. تغيير طريقة مخاطبة الجمهور و شرائحه العمرية الأصغر ..
محطات إذاعية تبث علي شبكة الأنترنت بشكل متواصل أصبح الاستماع إليها أقرب و أسهل ، و حتي خدمات جديدة مثل facebook radio live التي تتيح بثا إذاعيا حيا عبر موقع التواصل الشهير ..
فهل يكفي هذا كله لضمان البقاء لوسيلة كانت ، و لابد أن تبقي ، ساحرة مثل الإذاعة ؟
سؤال ضمن أسئلة أخري معي في نقطة حوار .