المعرقلون الذين يخلقون مستقبلا أفضل
- بين كينغ
- بي بي سي
اليابان تخترع خادمة ترتب الغرف
تتحكم السلع التي يصنعها الناس والطرق التي يصنعونها بها بتطورالمدن وتأخرها، وبارتقاء الأمم وسقوطها. ولذا فإن أي تخريب أو عرقلة لمصانع العالم يعد ذا أهمية وأهمية كبرى.
وهذه العرقلة قادمة بلا شك. فالمصانع يجري تحويرها الكترونيا وتزويدها بمجسات وحواسيب تجعلها أكثر سرعة ومرونة وكفاءة.
فالروبوتات ما لبثت تتحرر من القيود التي كانت تحيط بها، وتكتسب مهارات جديدة واساليب جديدة في العمل. كما أن الطباعة ثلاثية الأبعاد توحي بعالم يمكن لنا أن نصنع أي شيء في أي مكان اعتمادا على تصاميم كمبيوترية. وهذه الرؤية تقترب أكثرا فأكثر من أن تصبح حقيقة.
فهذه العوامل تعدنا بمصانع أكثر مراعاة للبيئة تنتج سلعا أفضل نوعية وبأسعار أقل، وأكثر توافقا مع رغباتنا وحاجاتنا الشخصية. وفي نفس الوقت، سيعفى البشر من أداء الكثير من الواجبات الشاقة والمملة والخطرة التي طالما كانت من سمات العمل في المصانع.
ولكن الوظائف في القطاع الصناعي كانت لها دائما أهمية سياسية أكبر من حجمها. فقد كانت من أكثر الوظائف مردودا ماديا واجتماعيا لأولئك الذين يفتقرون إلى تعليم جامعي.
قد تؤدي التقنيات الحديثة إلى انحسار فرص العمل في المجال الصناعي بشكل عام، وقد تتغير طبيعة الأعمال التي يؤديها البشر، فسيكون هناك عدد أقل من العاملين وعدد أكبر من المبرمجين. وسيعمل هؤلاء في أماكن مختلفة.
ولكن الأمر الذي لابد منه أن العرقلة قادمة بلا شك.
كانت ولاية ماساشوسيتس الأمريكية قد شعرت بآثار اختلال النشاط الصناعي في الماضي، إذ نمت فيها وازدهرت صناعة النسيج قبل أن تنتقل إلى جنوبي الولايات المتحدة. ولكن الولاية اليوم تعد موطنا لمجموعة من الشركات التي تعمل في سبيل تفجير ثورة صناعية جديدة.
شركة ديسكتوب ميتال ( Desktop Metal) التي أسسها ريك فولوب هي واحدة من هذه الشركات. ولد ريك في فنزويلا، وجاء إلى الولايات المتحدة في شبابه حيث أسس شركات عدة متخصصة بمجالات من البطاريات إلى الاتصالات اللاسلكية.
هل يمكنك طباعة السيارتك في المستقبل بتقنية ثلاثية الأبعاد؟
ويقيّم مشروعه الأخير بأكثر من 1,5 مليار دولار، ويهدف إلى تصنيع أي جزء معدني في غضون ساعات اعتمادا على تصميم كمبيوتري. بطبيعة الحال، كان في الإمكان استخدام الطابعات ذات الأبعاد الثلاثة منذ سنوات، ولكن العملية كانت بطيئة وباهضة التكاليف. تهدف شركة ديسكتوب ميتال إلى جعل العملية أسرع وأقل كلفة من الأساليب المستخدمة حاليا كالريازة والسباكة.
وستصبح هذه الأجزاء المعدنية الأسس الضرورية لانتاج العديد من الآلات المعاصرة من السيارات إلى آلات الغسيل إلى الطائرات.
ويتم الآن تسليم أول نظام للانتاج الواسع للشركة - والذي بوسعه انتاج أكثر من 300 طن من الأجزاء سنويا - إلى الزبائن.
وتنتج هذه الأنظمة قطعا مصنوعة من طبقات رقيقة من مساحيق المعادن تلصقها مادة أشبه بالغراء يطبع عليها باستخدام تقنية أشبه ما تكون بالتقنيات المستخدمة في الطابعات المكتبية الحبرية.
تشكل هذه الطبقات أشكالا ثلاثية الأبعاد يتم استخلاصها من المساحيق ويتم تسخينها لازالة المواد اللاصقة لتتحول إلى معادن تتسم بالصلابة الكافية لتكون جزءا من الآلات الحديثة.
من أجل أن يبرهن كيف يمكن لهذه التطورات أن تغير حياتنا، حمل ريك بيده مكبسا، وهو جزء أساسي من محركات السيارات. بدا المكبس من الخارج وكأنه مكبسا عاديا، أي اسطوانة يبلغ قطرها حوالي 10 سنتيمترات. ولكنه كان في الداخل، وبدل أن يكون مصنوعا من معدن صلب، كان يتكون من شبكة من العناصر الخيطية التي تحاكي المخلوقات الحية أكثر من مكونات السيارات العادية.
صمم المكبس من قبل تقنيات الذكاء الاصطناعي لكي يكون شكله الأكثر كفاءة، وأن يكون صلبا ولكنه أخف وزنا وأرخص انتاجا مما يسمح لمحرك السيارة أن تستهلك كمية أقل من الوقود.
يعتقد فولوب أن بإمكان الطباعة ثلاثية الأبعاد أن تغير ليس نوعية المواد المنتجة فحسب، ولكن أن تغير أيضا أماكن انتاجها. ففي الوقت الراهن، يكلف نصب آلة لانتاج جزء معدني ثمنا باهضا، ولذا تقوم الشركات ببناء مصانع كبيرة تنتج كميات كبيرة وتشحنها حول العالم.
ولكنه يقول إنه باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد سيتمكن المصنع نفسه من انتاج المحركات النفاثة اليوم والحلي والمجوهرات في اليوم التالي. ولا يتطلب الأمر إلا تحميل برنامج في الحاسوب. ولذا ستتمكن هذه المصانع من تصنيع منتجاتها محليا عوضا عن شحنها إلى مختلف أنحاء العالم.
تقول هيلينا لوران، المختصة بدراسة القطاع الصناعي لحساب معهد المنبر الاقتصادي العالمي ( WEF) "بإمكان الطباعة ثلاثية الأبعاد أن تحفز التصنيع المحلي بطريقة مثيرة للاهتمام وبامكانها أيضا أن تدعم الاقتصادات المحلية. لذا أنا اعتقد أن هذا التطور مثير للاهتمام بشكل خاص."
شركة ديسيكتوب ميتال ليست إلا شركة واحدة من شركات عدة تشكل موجة من الابتكار والتحديث في المجال الصناعي، وهي موجة يطلق عليها بشيء من التهويل "الثورة الصناعية الرابعة".
انطلقت الثورة الصناعية الأولى في مصانع الغزل والنسيج في بريطانيا وانتهى بها الأمر إلى تغيير كل مجريات الحياة البشرية.
أما الثورة الثانية، فشملت صناعات الحديد والصلب والسيارات.
وجلبت لنا الثورة الثالثة أجهزة الحاسوب. ويتوقع مناصرو الثورة الرابعة التي تشمل الطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتيات وغيرها من التقنيات أن تكون على قدر مساو من الأهمية على الأقل.
مصنع شركة سيمنس في باد نويشتات في وسط المانيا يزخر بالأصوات التي تتميز بها هذه الثورة الرابعة وهي في أوجها.
فصالات المصنع الواسعة والفسيحة تطغى عليها أصوات الروبوتات وهي تصنع محركات روبوتات أخرى، وهي تتأرجح في رقصة لا نهاية لها في أقفاص زجاجية.
ويتم تصنيف الأجزاء المصنعة وتخزينها في مخزن مؤتمت، بينما تسير رافعات لا يقودها سائقون في الممرات. وتقوم آلة خاصة بتغليف المحركات المنتجة دون تدخل بشري.
على هذا المصنع أن يكون مرنا بشكل استثنائي، إذ عليه أن ينتج 30 ألف شكل مختلف من المحركات، ولذا جعلت سيمنس منه معرضا لتقنيات الأتمتة الصناعية التي تفخر بها، وهي العقول الألكترونية لمصانع المستقبل.
تستخدم الشركة نظاما يطلق عليه "التوأم الرقمي" لادارة كل نشاط المصنع تقريبا، من تصميم الأجزاء إلى طرق انتاجها إلى مراقبة الأداء.
التوأم الرقمي يفتح الطريق أمام مصانع الغد
تتمكن الشركة باستخدام نماذج رقمية - أو توأمين - من الروبوتات اختبار كيفية عملهما في تصنيع المنتجات الجديدة. فالتوأم الرقمي لمثقاب على سبيل المثال يمكنه خلق شبيه له من المعدن مما يسمح للمهندسين أن يتوصلوا إلى الطريقة الأمثل لتصميم شكل ما دون أن يتركوا مكاتبهم.
على المصنع المنافسة للحصول على العقود وخفض النفقات للحفاظ على تنافسيته، وأصبحت عملية الحصول على سبل أكثر كفاءة أكثر صعوبة.
ولكن استخدام تقنية التوأم الرقمي أتاحت لسيمنس خفض سعر انتاج بعض من الاجزاء التي تنتجها بنسبة 20 في المئة، حسب ما يقول بيتر تسيتش. وفي تلك الأثناء، زاد انتاج المصنع من 600 ألف إلى 750 ألف وحدة في السنة دون أي زيادة في عدد العاملين.
يزداد الاستثمار في الروبوتات في المجال الصناعي بشكل كبير، فقد تضاعف وأكثر في السنوات الخمس الماضية حسب ما يقول الاتحاد الدولي للروبوتيات.
ولكن مدى المهمات التي تستطيع الروبوتات القيام بها ما زالت محدودة. فالروبوتات تجيد تنفيذ الأعمال الدورية، ولا تمل أبدا، ولذا، وفي بعض المهمات في المصانع مثل عمليات لحيم شاصيات السيارات بشكل متماثل يوما بعد يوم تتفوق الروبوتات على البشر بلا أدنى شك.
ولكن إذا كلفت هذه الروبوتات بعمل غير منظم، لا تتمكن من القيام به، مما يحدد من مدى المهمات التي تتمكن من القيام بها في المصانع.
ولكن، وفي قبو في مركز العاصمة اليابانية طوكيو، تحاول شركة تقنية حديثة التكوين معالجة هذا الأمر. فشركة بريفيرد نيتووركس ( Preferred Networks) تطبق شكلا من أشكال الذكاء الاصطناعي يطلق عليه "التعليم العميق - Deep Learning - لتعليم الروبوتات كيفية التعامل مع المواد غير المرتبة أو الأشياء التي لم ترها من قبل.
وكان أحد النماذج التي عرضتها الشركة نظام يقوم بموجبه روبوتان بتنظيف وتنظيم غرفة طفل.
هذه مهمة سهلة بالنسبة للبشر - بل حتى للأطفال في السادسة - ولكنها عسيرة بالنسبة للروبوتات.
فعلى هذه الروبوتات التعرف على كل جسم مهما كان مبثوثا في الغرفة، ومن ثم جمعها ووضعها في مكانها المخصص.
تعمل الروبوتات ببطء وتعجز عن التعرف على الأجسام التي تجهلها. فهي تخفق في التعرف على جارب كاتب هذا المقال الأكبر حجما والأكثر ألوانا من الجوارب التي شهدتها في الماضي.
مع ذلك، يأمل مؤسس الشركة ورئيس مجلس ادارتها تورو نيشيكاوا، بأنه سيبدأ ببيع هذه الروبوتات في غضون سنوات خمس.
من ضمن المستثمرين في الشركة شركة فانوك وهي شركة يابانية تنتج الأذرع الروبوتية المستخدمة في العديد من المصانع العالمية المتقدمة.
عقدت شركتا فانوك وبريفيرد نيتووركس تحالفا في عام 2015، وهو تحالف يهدف إلى تطبيق تقنيات التعليم العميق لتحسين وتطوير روبوتات فانوك الصناعية.
وفي مكان آخر من صالة عرض شركة بريفيرد نيتووركس، تقوم ذراع من انتاج شركة فانوك بالكشف عن سلة من السلع، وتفكر في كيفية جمعها ووضعها في سلة أخرى.
وبمقدور هذه الروبوتات التقاط مواد لم ترها من قبل، بما فيها هاتف مصورنا.
ففي مصانع المستقبل، قد تتمكن هذه التقنيات من التمييز بين الأجزاء المعدنية للسماح لروبوت آخر لتركيب أو مسح أو ترتيب ما يبتاعه المرء.
عند مغادرتك مكاتب الشركة تشعر بالاعجاب بما يمكن للروبوتات انجازه، ولكنك تشعر أيضا بالاحباط حول مدى ما على هذه الاجهزة ان تتطور قبل أن تنافس قدرات البشر. فاذا كانت أكثر الروبوتات تطورا في العالم مازالت غير قادرة على التعرف على جارب ملون، لا بد أن يكون للبشر مستقبل في هذا العالم.
في العالم الماضي، اعترف إيلون ماسك، صاحب شركة تيسلا للسيارات الكهربائية، والذي كان يعاني من تأخر انتاج السيارات في مصنع الشركة في كاليفورنيا، بأن الأتمتة المتزايدة خطأ كبير.
وقال ماسك في تغريدة في ذلك الحين "إن البشر غير مقيّمين بشكل صحيح."
هل يحل الروبوت محل الإنسان في المصانع؟
زيادة الكفاءة تعني بلا شك أن عددا أقل من البشر بامكانهم القيام بنفس الأعمال. ولكن مديري المصانع في العديد من الدول المتطورة قلقون من شح العمالة الماهرة، ويرون أن الروبوتات هي الحل.
ولكن هيلينا لوران تصر على أن أن فترة التغيير الحالية في مجال الصناعة تعد فرصة كبيرة لجعل العالم مكانا أفضل.
وتقول "المجال الصناعي هو المجال الوحيد الذي يتضمن القدر الأكبر من الإبداع، والمصدر الأكبر للنمو الاقتصادي والمصدر الأكبر للوظائف في الماضي."
وتمضي للقول "تراه يتغير. وهذه فرصة لاعادة تشكيل النظام السائد. وإذا تمكننا من ذلك، فسيكون لذلك تأثير هائل."
شكر وتقدير
الكاتب: بين كينغ
المنتجون: فيليبا غودريتش وبين كينغ
التصوير: إيان كارترايت (الولايات المتحدة)، وهانز شاويرته (ألمانيا) وجيرو أكيبا (اليابان)
فريق الانتاج: كيزي كوكس (الولايات المتحدة)
التصميم: لاورا لويلين
الصور: بي بي سي وغيتي
رئيس التحرير: روب ستيفنسون