قصة صورة
قصص على الهواء هي مسابقة القصة القصيرة التي تجريها بي بي سي مع مجلة "العربي" التي نختار فيها كل اسبوع قصة ً جديدة وكاتبا جديدا.
القصة الفائزة تنشر هنا في هذه المساحة وعلى صفحات مجلة العربي، كما تقدم المجلة مبلغا رمزيا للفائز قدره مائة دولار امريكي..
شروط القصة بسيطة وهي الالتزام بخمسمائة كلمة كحد اقصى، ويمكنكم أن ترسلوا نسخة إلكترونية من القصة لبي بي سي إكسترا على العنوان التالي: bbcxtra@bbc.co.uk أو او لمجلة العربي. إنها فرصة لنا للاستماع إلى قصص قصيرة مكتوبة بأقلامكم أنتم على الهواء.
........................................................................................
صورة
الساعة الواحدة ظهراً.
لم تصدق نفسها وهى تنظر إلى الساعة الأنيقة فى معصمها.
الواحدة ظهراً! هذه إذاً واحدة من المرات القليلة التى تعود فيها إلى المنزل فى هذا الوقت المبكر.
أولجت المفتاح فى الباب وهى على يقين أنه لن يستقبلها أحد... زوجها فى عمله, والأولاد لم يعودوا من المدرسة بعد. قطعت خطواتها الصمت الثقيل الرابض فى أرجاء المنزل. دخلت غرفتها وتحررت من ملابسها وارتدت ملابس البيت المريحة, ثم اتجهت إلى المطبخ لتعد لنفسها كوباً من الشاى.
بعد دقائق, كانت ممدة على الأريكة فى وضع أشبه للنوم وهى محكمة قبضتها على كوب الشاى الساخن فى استمتاع. أخذت تحدق فى الحائط المقابل لها دون أن يطرف لها جفناً... فيبدو لمن يراها وكأن هناك لوحة جدارية خلابة تخطف الأنظار مرسومة على هذا الحائط المصمت!
غمرتها حالة من السلام النفسى. لكم هو رائع!... ذلك الهدوء الذى يحيط بها من كل جانب. لماذا لا يتثنى لها كثيراً أن تحظى بمثل هذه اللحظات؟!
فجأة, التمعت عيناها.. فلقد وثبت الى عقلها فكرة لطالما أرادت أن تنفذها. قامت بخفة وكوب الشاى لا يزال فى يدها واتجهت الى غرفة النوم. كانت تمشى كالجندى يعرف تماماً مقصده. جثت على ركبتيها ثم جلست القرفصاء أمام الدولاب مباشرة. وضعت كوب الشاى جانباً على الأرضية الباردة وأخرجت الدرج السفلى من الدولاب لتضعه على حجرها.
درج الذكريات... هكذا أسمته. قد يبدو لمن يراه لأول وهلة درجاً مليئاً بمجموعة من القصاصات الورقية والكشاكيل والصور... مجرد "كراكيب"! ولكن بالنسبة لها, كان الماضى مجسداً. ذلك الحلم القصير الذى لا نفهم كيف تأثرنا به... تلك اللحظات الضبابية التى لا نصدق أننا مررنا بها.
كانت تحتفظ بالكثير من الأشياء فى هذا الدرج: كتب تعود الى أيام طفولتها, شهدات مدرسية, صور قديمة متاَكلة, قصاصات ورقية صغيرة تحمل كلمات رقيقة من صديقاتها فى المدرسة والجامعة, وحتى العمل.
كان الدرج مكتظاً. فالطالما عقدت العزم على أن تنظمه يوماً ما, وأن تتخلص من الأشياء عديمة النفع فيه, ولكنها لم تجد هذا ال"يوماً ما" قط.
فلتفعل ذلك الأن إذاً!
بدأت تعبث وتنبش فى محتويات الدرج بأنامل باندورا.
ما هذه الأشياء؟
أوراق قديمة أذهلها احتفاظها بها حتى الأن, كتب لا تتذكر أنها قد قرأتها يوماً, عروسة شبه بدائية باهتة الألوان.
يا إلهى!
على الرغم من هذه الفوضى, لم يسعها إلا الابتسام!
هل هى حقا صاحبة هذه الأشياء؟ هل هى الطفلة التى لعبت بتلك الدمية المهترئة.. أم المراهقة التى قرأت تلك القصص.. أم الطالبة التى استلمت تلك الشهادة.. أم الشابة التى انتزعت تلك الصفحة من الجريدة؟
من هى حقاً فى هؤلاء؟
وهنا, وقعت عيناها على مجموعة من الصور فى ظرف يبدو عليه القدم. أخرجتها وبدأت تقلبها بحنين بالغ. أدركت أن معظمها قد تم التقاطه وهى صغيرة السن. لم تكن طفلة بارعة الجمال, ولكن شيئاً ما جذبها إلى تلك الملامح البريئة ودفعها إلى الابتسام.
هذه صورة لها مع أختها الكبرى على الشاطىء... وهذه واحدة أخرى وهى ممسكة بعروستها المفضلة. أخذت الصور تتوالى وكأنه حلم.
وفجأة.. توقفت عند تلك الصورة.
كانت أمها تحتضنها من الخلف والابتسامة تعلو وجه كلتيهما. أخذت تحدق فى الصورة لدقائق. كان عقلها يعمل كخلية نحل. لماذا كانت تبتسم فى الصورة؟ لماذا كانت أمها تبتسم؟ لماذا بدت لها هذه الصورة مقبضة؟!
بدأت الذكريات تهاجم عقلها بضراوة... أهمل النسيان عمله أخيراً وترك الأبواب مفتوحة.
"ترى نفسها طفلة لم تتجاوز السابعة تسير بجانب أمها فى الشارع. لفت انتباهها فى أحدى واجهات المحلات ذلك الحذاء الذهبى الجميل, تعلوه وردة كبيرة تشبه تلك التى وجدتها يوماً فى حديقة المدرسة. جذبت ملابس أمها برفق لتعبر لها عن إعجابها بهذا الحذاء. نظرت أمها إليها ثم إلى الحذاء بإستياء شديد, ووجهت لها واحدة من تلك النظرات النارية, ثم بدأ وابل من "الشخط" حول ذوقها المتدنى وانعدام الحس الجمالى لديها! لم تفهم لماذا غضبت أمها بهذا الشكل؟! لقد كان الحذاء جميلاً حقاً فى عينيها الصغيرتين."
لماذا كانت تبتسم؟ شعرت بتلك الغصة فى حلقها تصعد تدريجيا وكأنها بركاناً يوشك على الإنفجار!
"ها هى مرة أخرى... فى غرفتها, ممسكة بشهادة الشهر الأول من الصف الأول الثانوى. لم تكن نتائجها مشرفة على الاطلاق. لم تعرف لما؟!... لقد ذاكرت بجد ولكن المناهج صعبة.. صعبة للغاية! كانت الدموع تنهمر على وجنتيها, وتأنيب أمها الذى بدا وكأنه سيستمر الى الأبد كان يصم أذنيها. لماذا كانت تصرخ فيها بهذا الشكل؟ كل ما احتاجت إليه فى هذه اللحظة هو حضناً دافئاً وصوتاً ليقول لها أن كل شىء سيكون على مايرام!"
لماذا كانت أمها تبتسم؟
وانفجر البركان!
أخذت الدموع الساخنة تجرى على وجهها البارد وكأنها لفحات من نار.
بكت. بكت كما لم تبك من قبل. وضعت الصور والدرج جانباً وأمسكت بكوب الشاى وأحتضنته كطفل صغير. شعرت بحرارته تتسرب إلى قلبها. أحبت صوت دموعها وهى تقطر فى الكوب الممتلىء, ولم تحرك ساكناً.. لفترة طويلة.
فى الصباح التالى, ركبت سيارتها واتجهت الى العمل. صعدت الى مكتبها فى الطابق العاشر من المبنى, وأغلقت الباب خلفها. فتحت حقيبتها وأخرجت صورة لسيدة تحتضن طفلة من الخلف, والإبتسامة تعلو وجهيهما. مزقت الصورة الى أجزاء صغيرة.. صغيرة جداً, ثم فتحت النافذة وألقت بالقصاصات بكل قوتها. أخذت تشاهدها وهى تتطاير فى السماء.. تعلو وتهبط.
لن تراها بعد الأن.
لن يراها أحد بعد الأن.
منال شلبى